* الشهيد وأبو الشهيد.
هو سيد قبيلة دوس في الجاهلية، وشريف من أشراف العرب المرموقين، وواحد من أصحاب المروءات المعدودين، لا تنزل له قِدر عن نار، ولا يوصد له باب أمام طارق، يطعم الجائع، وَيُؤمِّن الخائف، ويجير المستجير، وكان صاحب فصاحة وبيان، بصير بحلو البيان.
غادر الطفيل منازل قومه في تهامة متوجهاً إلى مكة، ورحى الصراع دائرة بين الرسول الكريم صلوات الله عليه، وبين كفار قريش، ووجد الطفيل نفسه يدخل في هذه المعركة على غير أُهبة، ويخوض غمارها عن غير قصد. فهو لم يقدُم إلى مكة لهذا الغرض، ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال، ومن هنا كانت للطفيل بن عمرو الدوسي مع هذا الصراع حكاية لا تنسى، فلنستمع إليها، فإنها من غرائب القصص.
حدث عنها الطفيل بنفسه فقال: قدمت مكة، فلما أن رآني سادة قريش حتى أقبلوا عليَّ فرحبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني فيهم أعز منزل، ثم إجتمع إليَّ سادتهم وكبراؤهم وقالوا: يا طفيل، إنك قد قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قد أفسد أمرنا ومزق شملنا، وشتت جماعتنا، ونحن نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا، فلا تكلم الرجل، ولا تسمعن منه شيئاً، فإن له قولاً كالسحر، يفرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوجة وزوجها.
¤ إسلامه رضي الله عنه:
قال الطفيل: فوالله مازالوا بي يقصون علي من غرائب أخباره، ويخوفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله، حتى أجمعت أمري على ألا أقترب منه، وألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً.
ولما غدوت إلى المسجد للطواف بالكعبة، والتبرُك بأصنامها التي كنا إليها نحج وإياها نعظم، حشوت في أذني قطناً خوفاً من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد.
لكني ما إن دخلت المسجد، حتى وجدته قائماً يصلي عند الكعبة صلاة غير صلاتنا، ويتعبد عبادة غير عبادتنا، فأسرني منظره، وهزتني عبادته، ووجدت نفسي أدنو منه، شيئاً فشيئاً على غير قصد مني حتى أصبحت قريباً منه.
وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعض ما يقول، فسمعت كلاماً حسناً، وقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طفيل.. إنك لرجل لبيب شاعر، وما يخفى عليك الحَسنُ من القبيح، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول.. فإذا كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.
قال الطفيل: ثم مكثت حتى إنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي عنك كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني من أمرك حتى سددت أُذُني بقطن لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعني شيئاً منه، فوجدته حسناً فإعرض عليَّ أمرك.
فعرض علي أمره، وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق، فوالله ما سمعت قولاً أحسن من قوله، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره.
عند ذلك بسطت يدي له، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ودخلت الإسلام.
¤ دعــاء النبي له:
قال الطفيل: ثم أقمت في مكة زمناً تعلمت فيه أمور الإسلام وحفظت فيه ما تيسر لي من القرآن، ولما عزمت على العودة إلى قومي قلت: يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في عشيرتي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم جعل له آية».
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت في موضع مُشرف على منازلهم وقع نورٌ فيما بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم.
فتحول النور فوقع في رأس سوطي، فجعل الناس يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية -العقبة- فلما نزلت، أتاني أبي -وكان شيخاً كبيراً- فدعوته فأسلم، ثم جاءت زوجته فدعوتها فأسلمت.
قال ثم دعوتُ دوساً فأبطئوا عليَّ إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاماً.
قال الطفيل: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ومعي أبو هريرة فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: «ما وراءك يا طفيل؟»، فقلت: قلوب عليها أكنة وكفر شديد.. لقد غلب على دوس الفسوق والعصيان.
¤ دعــاء النبي لقبيلة طفيل:
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ورفع يده إلى السماء، قال أبو هريرة: فلما رأيته كذلك خفت أن يدعو على قومي فيهلكوا.. فقلت: واقوماه.
لكن الرسول صلوات الله عليه جعل يقول: «اللهم اهد دوساً.. اللهم اهد دوساً.. اللهم اهد دوساً...»..
ثم التفت إلى الطفيل وقال: «ارجع إلى قومك وارفق بهم وادعهم إلى الإسلام».
قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضت بدر وأحد والخندق، فقدمت على النبي ومعي ثمانون بيتاً من دوس أسلموا وحسن إسلامهم فسُر بنا رسول الله، وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم خيبر فقلنا: يا رسول الله: اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها واجعل شعارنا: مبرور.
¤ حرقه لصنم ذي الكفين والقضاء على الشرك في دوس:
قال الطفيل: ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله، إبعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.. فأذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فسار إلى الصنم في سرية من قومه.
فلما بلغه، وهم بإحراقه إجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربصون به الشر، وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال ذا الكفين بضُر.
لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عُبَّاده.. وجعل يُضرم النار في فؤادِه.. وهو يرتجز:
يا ذا الكفين لست من عُبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
وما إن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك في دوس، فأسلم القوم جيمعاً وحسن إسلامهم.
¤ ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته:
ظل الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازماً لرسول الله صلوات الله عليه، حتى قُبض النبي إلى جوار ربه.
ولما آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصديق، وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما نشبت حروب الردة، نفر الطفيل في طليعة جيش المسلمين لحرب مسليمة الكذاب، ومعه ابنه عمرو.
¤ رؤيا استشهاده رضي الله عنه:
وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا، فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فعبروها لي، فقالوا: وما رأيت، قال: رأيت أن رأسي قد حُلِقَ، وأن طائراً خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها، وأن ابني عمراً جعل يطلبني حثيثاً لكنه حيل بيني وبينه، فقالوا: خيراً... فقال: أما أنا والله لقد أوَّلتُها.
أما حلق رأسي فذلك أنه يُقطَع.. وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي.. وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تُحفر لي فأُدفن في جوفها.. وإني لأرجو أن أقتل شهيداً.
وأما طلبُ ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها -إذا أذِنَ الله- لكنه يدركها فيما بعد.
¤ استشهاده بمعركة اليمامة رضي الله عنه:
وفي معركة اليمامة أبلى الصحابي الجليل الطفيل بنُ عمرو الدوسي أعظم البلاء، حتى خرَّ صريعاً شهيداً على أرض المعركة، وأما ابنه عمرو فما زال يقاتل حتى أثخنته الجراح، وقُطعت كفه اليمنى فعاد إلى المدينة مخلفاً على أرض المعركة أباه ويده.
وفي خلافة عمر بن الخطاب، دخل عليه عمرو بن الطفيل، فأُتي للفاروق بطعام، والناس جلوس عنده، فدعا القوم إلى طعامه، فتنحى عمرو عنه، فقال له الفاروق: مالك؟! لعلك تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك، قال: أجل يا أمير المؤمنين.
قال: والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة.. والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة إلا أنت، يريد بذلك يده.
ظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارق أباه، فلما كانت معركة اليرموك بادر إليها عمرو مع المبادرين وما زال يقاتل حتى أدرك الشهادة التي منَّاه بها أبوه.
رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسي، فهو الشهيد وأبو الشهيد.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.